
محمد حسن حمادة
في هذه المقال نحاول أن نميط اللثام عن أهم شخصية أدبية في كتابات أديب نوبل نحيب محفوظ بل أهم شخصية أدبية في تاريخ الأدب العربي الحديث التي تركت بصمة في حياة المصريين والعرب منذ ظهور الثلاثية (بين القصرين، السكرية، قصر الشوق) طغت شخصية “سي السيد” على ماعداها، حتى وصفها البعض بأنها: مثال حي للرجل الشرقي في القرن الماضي”.
لكن السؤال الأبرز من أين استلهم نجيب محفوظ هذه الشخصية المتفردة التي تجمع الضدين؟!. تكهن البعض بأن هذه الشخصية حتما والد نجيب محفوظ.
توجه الناقد رجاء النقاش رحمه الله بهذا السؤال بشكل مباشر لنجيب محفوظ فنفى على الفور هذا الكلام جملة وتفصيلا في كتاب “صفحات من مذكرات نجيب محفوظ”. وقال أن: والده هو “عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا، من مواليد 1870، وتوفي عام 1937، فقد كانت شخصية والدي تتحلى بقدر كبير من التسامح والمرونة والديمقراطية، وليس فيها استبداد أو عنف، ولا علاقة لها بشخصية “السيد أحمد عبدالجواد” بطل الثلاثية”. ثم كشف لنا محفوظ في نفس الكتاب: أنه استلهم شخصية “سي السيد” من جار شامي الأصل اسمه “عم بشير”، استقر هو وزوجته (وهي شامية أيضا) في مصر، وكان بيته مواجها لبيتنا في بيت القاضي، بشير كان رجلا طيبا إلا أنه جبارا، وكان يعامل زوجته بقسوة، لدرجة أنها كانت تأتي لوالدة نجيب محفوظ الحاجة “فاطمة” باستمرار تشكو من سوء معاملة الزوج.
وخلال بحثي عن شخصية “سي السيد” عثرت على كنز ثمين، حوار صحفي نادر مع الحاج محمد “ابن سي السيد” الحاج أحمد عبد الجواد الحقيقي يفجر لنا مواجهة من العيار الثقيل مع نجيب محفوظ وينفي جملة وتفصيلا الصورة الدرامية التي صدرها نجيب محفوظ عن والده فيقول: “سي السيد” الحقيقي اسمه عبد الجواد محمد سعيد، ولد عام 1905 في درب الأتراك الذي تغير اسمه لشارع الشيخ محمد عبده خلف الجامع الأزهر بالقاهرة وكان يعمل بالعطارة، أما والده فقد تزوج من تسع نساء أنجبت له ثلاث منهن، فكان “لسي السيد” أخ شقيق واحد أكبر منه بينما كان إخوته وأخواته لأبيه كثيرين في صعيد مصر حيث كان أبوه يسافر ليجلب بضاعته.
بدأ ” سي السيد” العمل مع والده في محل العطارة منذ أن كان عمره 12 عاما وكون سمعة طيبة حتى أصبح من أكبر تجار العطارة في الحسين ولا يزال المحل قائما ويحمل نفس الاسم ” البركة ” ويقع في شارع جوهر القائد
بحي الحسين بنفس مكانه منذ 160 عام ويديره الآن ابن “سي السيد” الحاج محمد عبد الجواد الذي ورث العطارة عن والده ويعاونه فيها أبناؤه سامح وإيهاب.
عاش سي السيد “الأصلي” في منزله الكائن بمنطقة الباب الأخضر أمام مسجد الحسين، وكان يفضل أن يرتدي الطربوش والجلباب البلدي الذي يتوسطه حزام من الحرير وقفطان ( لباس يشبه إلى حد ما ملابس طلاب وشيوخ الأزهر ) كانت تربطه صداقة بكبار الكتاب والفنانين، وكانت جلساتهم المفضلة إما في قهوة الفيشاوي أو في محل العطارة الخاص به، وعلى رأس هؤلاء الكاتب الكبير نجيب محفوظ وأنيس منصور والمخرج الكبير حسن الإمام ويوسف السباعي.
وعن تفاصيل اليوم العادي في حياة أسرة “سي السيد” الحقيقي يستطرد ابنه الحاج محمد: كانت حياتنا منظمة ودقيقة جدا، فكانت أمي تستيقظ مبكرا لتحضر لأبي طربوشه وتساعده في لبسه عند خروجه لصلاة الفجر ثم تبدأ في إعداد طعام الإفطار حيث كان أبي يعود ليفطر بعد الصلاة ونكون نحن قد استيقظنا أنا وأخواتي فنقف أمامه ويجلس إلى
(الطبلية) وكنت أجلس معه أنا والبنتان الصغيرتان أما أخواتي الكبيرات فكن يأكلن بعده مع أمي لانشغالهم في أعمال البيت (مش لأنه كان بيمنعهم زي ما قيل في الفيلم والرواية) وبعد الإفطار كان يذهب ليفتح الدكان وبعد الظهر كان يعود الى البيت لتناول طعام الغداء وبعد الغداء كان ينام ساعة أو ساعتين ثم يستيقظ ليعود إلى المحل ولم أكن أراه عند عودته ليلا “.
لكن المفاجأة الأكبر كانت في مواجهة الحاج محمد ابن “سي السيد” الحقيقي مع نجيب محفوظ وجها لوجهه فيؤكد الحاج محمد:
عاتبت نجيب محفوظ لوصفه أبي بهذه الصفات البعيدة كل البعد عن أبي فقد كان والدي رجل صالح ورع، دائما ما يعقد حلقات الذكر داخل محل العطارة الخاص به حتى منتصف الليل ويحضر هذه الحلقات كبار العلماء
والشيوخ في مصر مثل الشيخ محمد أبو الليل وهو من علماء الأزهر الشريف والمقرئين أمثال الشيخ البهتيمي والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ طه الفشني والشيخ محمد الفيومي المنشد الديني والشيخ محمود عبد الحق
والشيخ عبد الباسط عبد الصمد”.
ثم يردف ابن “سي السيد” الحقيقي ويقول: أنه لا ينكر أن والده اتسم بالحزم والشدة والقسوة في بعض الأحيان، وأنه…